تركزت عبقرية الأدب، وعبقرية الأديب العظيم سيد قطب في عبارته هذه ”ستظل كلماتنا عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة”، كان سيد قطب قد كتب هذه الكلمات تعليقًا ونبوءة على استشهاد الإمام حسن البنا، متوقعًا أن كلماته ستحيا بعد أن سالت دماؤه في سبيلها.
قفزت إلى ذاكرتي كلمة سيد قطب أول ما سمعت هذه الكلمات الإنجليزية من فم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والتي معناها ”هل نخاف من أن نموت؟ إنه الموت، سواء كان بالاغتيال أو بالسرطان، إنه نفس الموت، كلنا نتطلع إلى اليوم الأخير في حياتنا، ليس هناك فرق، إن كان بالأباتشى أو بالسكتة.. أنا أفضل أن يكون بالأباتشى ”.
هذا الكلام لا يمكن أن يكتسب مذاقا وروحه الخاصة لو لم يخرج من شهيد.. إنها عبقرية الشهادة التي سكبت على هذه الكلمات البسيطة رحيق البطولة، وحولتها إلى حروف غير كل الحروف، وضعت فيها طاقة التأثير الذي ينساب دافئا أو حارقا إلى القلوب والنفوس في لحظة.
لم تكن كلمات الرنتيسي كأي كلمات ينطقها أي مناضل.. كان طعم الدم الذي يكسوها يكسبها قيمة خاصة لا تكتسبها إلا دماء الشهداء..
إنها تشبه كلمات الشيخ الشهيد، أسطورة المقاومة، وجلجلة الصوت الضعيف، ورمز الانتصار على كل العوائق ولو كانت الشلل الكامل.. الشيخ المعجزة أحمد ياسين الذي سئل في حوار على قناة المجد الفضائية عن تهديدات الصهاينة له بالاغتيال فقال بصوته الضعيف المبحوح: ”نحن طلاب شهادة.. نحن نطلب الشهادة.. نطلب الحياة الأبدية الخالدة.. مش حياة الدنيا الصغيرة التافهة.. من أجل هيك لا نخاف.. ولا تزيدنا هذه التهديدات إلا ثبات على المشوار الطويل من أجل النصر والتحرير إن شاء الله".
الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي رحمهما الله تعالىنادرةٌ هي المرات التي أشعر فيها بالفخر كوني أنتمي إلى هذا الجزء من العالم، فأحوالنا المعروفة لا تزيد النفس إلا إحباطا، غير أن تلك النوادر دائمًا ما ترتبط بمثل هذه الأساطير البشرية التي تجسدت في شخصيات مثل ياسين والرنتيسي، هو فخر ينبع من الإحساس بأني أنتمي إلى هؤلاء، أو إلى نفس المسار الذي ساروا عليه.. وهو طعم تعجز الكلمات عن الإحاطة به.. إنه يشبه مثلا عودة الروح إلى جسد الميت فإذا به يخرج من سكونه، أو لربما مثل حركة خافتة من جسد مريض قد ظننا أنه مات، فإذا هذه الحركة -رغم صغرها وضعفها- تشق صمت اليأس والحزن والإحباط لتنشر الأمل في لحظة واحدة.. هي كذلك كفرحة الأب؛ تأكد من موت طفله الرضيع فلما صدرت منه آهةٌ تُنبيء عن الحياة فكأن الدنيا قد عادت من جديد.. شئ مثل هذا يحدث حين ترى وجه ياسين والرنتيسي وغيرهم من أبطال الأمة الخالدين.. رغم أنها وجوه لأشخاص معدودين إلا أنها مثل تلك الحركة الضعيفة التي تشق الصمت واليأس وتزرع الأمل في لحظة واحدة.
وجه واحد.. أو كلمات بسيطة تستطيع أن تفعل كل هذا.. لا لأنها فصيحة، بل على العكس قد تخلو تمامًا من الفصاحة.. لكنها تنطلق من روح تشعر بهذه الكلمات وبمعناها ثم يكسوها دم الشهادة رنينا خاصا.
كم من المنفوشين والمنفوخين يثير في الناس ما تثيره صورة الرنتيسي الصامتة الباسمة.. أو صورة ياسين الحزينة المتأملة؟ كم من الصارخين والزاعقين يستطيع سحر آذان المستمعين مثلما تفعله عبارات هادئة ضعيفة من صوت مبحوح كصوت الشيخ ياسين؟
ذلك أن ”فعل رجل في ألف رجل.. خير من قول ألف رجل لرجل”.
لا تنهض الأمة بالأقوال، ولا تكتسب الأقوال تأثيرها من فصاحتها.. بل من سيرة وتاريخ من قالها.. أو قل من دمائه!!
ثمة ملحوظة ملفتة للنظر وتسترعي الانتباه، ذلك أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة الفصاحة التي لا تقدر في حياتها شيئا مثلما تقدر بلاغة العبارة وروعة التصوير، حتى إذا ظهر في القبيلة شاعر طاروا به فرحا، غير أنهم كانوا في ذات اللحظة من أكثر الأمم تخلفا على وجه الأرض حينها.. لم يستطيعوا بناء حضارة ولا شبه حضارة ولا حتى معالم مشوهة من حضارة.. بل ولا استطاعوا تكوين وحدة من أي نوع، على ما كان بجوارهم من إمبراطوريات ضخمة كفارس والروم..
فلما جاء الإسلام وأطلق فيهم روح العمل -مع القول- انسابوا في الأرض يبنون حضارة هي أسرع الحضارات قيامًا وأعمقها تأثيرًا.
ولم تحيا الأمة حينئذ إلا بأمثال من قال: ”إنى لأجد ريح الجنة”، ليس لأنها كلمة بليغة، بل لأنها قالها وهو يموت، قالها بطعم ورائحة الدماء، فرحم الله أنس بن النضر.
وإن مَثَلَه كَمَثَل أخيه عبد الله بن رواحة الذي كررها بعد ستة أعوام، في مؤتة، حين نزل إلى ساحة الجهاد قائلاً:
أقسمت يا نفس لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة؟
قد كنت قبل مطمئنة
إنه ليس شعرًا في المرتبة الأولى في الفصاحة، غير أن الكلمات قد خلدت، لأن صاحبها مات بعدها بقليل، شهيدا في سبيل الله.
بل ولقد خلدت الأمة بمن لم يقل شيئا، بصاحبه جعفر بن أبي طالب الذي فَعَل في صمت، أو قل: راح شهيدا صامتا، قُطعت يمينه التي تحمل الراية، فأمسكها بشماله، فتقطع شماله فيمسكها بعضدية، ثم يضرب فيموت ولاتسقط منه الراية.. هو مشهد صامت لكنه أبلغ من معلقات شعر كلها تدعو للجهاد.
ولقد اكتسبت كلمات خبيب بن عدي الشهيرة روعتها وتأثيرها وخلودها، لا لأنها كانت بليغة أو فصيحة.. بل لأنها قيلت وهو على خشبة الصلب يرفض إلا أن يموت مسلما.. قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما **** على أي جنب كان في الله مصرعى
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصـال شلو ممــزع
وتلك السطور التي أكتبها الآن.. يجب أن أعرف أنها بلا قيمة لو لم تتحول إلى عمل، ولقد أحببت أن أسأل نفسي وأسألك معي:
ما هو نصيبك من البلاغة الحقيقية؟؟ وأقصد نصيبك من العمل.
قفزت إلى ذاكرتي كلمة سيد قطب أول ما سمعت هذه الكلمات الإنجليزية من فم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، والتي معناها ”هل نخاف من أن نموت؟ إنه الموت، سواء كان بالاغتيال أو بالسرطان، إنه نفس الموت، كلنا نتطلع إلى اليوم الأخير في حياتنا، ليس هناك فرق، إن كان بالأباتشى أو بالسكتة.. أنا أفضل أن يكون بالأباتشى ”.
هذا الكلام لا يمكن أن يكتسب مذاقا وروحه الخاصة لو لم يخرج من شهيد.. إنها عبقرية الشهادة التي سكبت على هذه الكلمات البسيطة رحيق البطولة، وحولتها إلى حروف غير كل الحروف، وضعت فيها طاقة التأثير الذي ينساب دافئا أو حارقا إلى القلوب والنفوس في لحظة.
لم تكن كلمات الرنتيسي كأي كلمات ينطقها أي مناضل.. كان طعم الدم الذي يكسوها يكسبها قيمة خاصة لا تكتسبها إلا دماء الشهداء..
إنها تشبه كلمات الشيخ الشهيد، أسطورة المقاومة، وجلجلة الصوت الضعيف، ورمز الانتصار على كل العوائق ولو كانت الشلل الكامل.. الشيخ المعجزة أحمد ياسين الذي سئل في حوار على قناة المجد الفضائية عن تهديدات الصهاينة له بالاغتيال فقال بصوته الضعيف المبحوح: ”نحن طلاب شهادة.. نحن نطلب الشهادة.. نطلب الحياة الأبدية الخالدة.. مش حياة الدنيا الصغيرة التافهة.. من أجل هيك لا نخاف.. ولا تزيدنا هذه التهديدات إلا ثبات على المشوار الطويل من أجل النصر والتحرير إن شاء الله".
الشيخ أحمد ياسين والرنتيسي رحمهما الله تعالىنادرةٌ هي المرات التي أشعر فيها بالفخر كوني أنتمي إلى هذا الجزء من العالم، فأحوالنا المعروفة لا تزيد النفس إلا إحباطا، غير أن تلك النوادر دائمًا ما ترتبط بمثل هذه الأساطير البشرية التي تجسدت في شخصيات مثل ياسين والرنتيسي، هو فخر ينبع من الإحساس بأني أنتمي إلى هؤلاء، أو إلى نفس المسار الذي ساروا عليه.. وهو طعم تعجز الكلمات عن الإحاطة به.. إنه يشبه مثلا عودة الروح إلى جسد الميت فإذا به يخرج من سكونه، أو لربما مثل حركة خافتة من جسد مريض قد ظننا أنه مات، فإذا هذه الحركة -رغم صغرها وضعفها- تشق صمت اليأس والحزن والإحباط لتنشر الأمل في لحظة واحدة.. هي كذلك كفرحة الأب؛ تأكد من موت طفله الرضيع فلما صدرت منه آهةٌ تُنبيء عن الحياة فكأن الدنيا قد عادت من جديد.. شئ مثل هذا يحدث حين ترى وجه ياسين والرنتيسي وغيرهم من أبطال الأمة الخالدين.. رغم أنها وجوه لأشخاص معدودين إلا أنها مثل تلك الحركة الضعيفة التي تشق الصمت واليأس وتزرع الأمل في لحظة واحدة.
وجه واحد.. أو كلمات بسيطة تستطيع أن تفعل كل هذا.. لا لأنها فصيحة، بل على العكس قد تخلو تمامًا من الفصاحة.. لكنها تنطلق من روح تشعر بهذه الكلمات وبمعناها ثم يكسوها دم الشهادة رنينا خاصا.
كم من المنفوشين والمنفوخين يثير في الناس ما تثيره صورة الرنتيسي الصامتة الباسمة.. أو صورة ياسين الحزينة المتأملة؟ كم من الصارخين والزاعقين يستطيع سحر آذان المستمعين مثلما تفعله عبارات هادئة ضعيفة من صوت مبحوح كصوت الشيخ ياسين؟
ذلك أن ”فعل رجل في ألف رجل.. خير من قول ألف رجل لرجل”.
لا تنهض الأمة بالأقوال، ولا تكتسب الأقوال تأثيرها من فصاحتها.. بل من سيرة وتاريخ من قالها.. أو قل من دمائه!!
ثمة ملحوظة ملفتة للنظر وتسترعي الانتباه، ذلك أن العرب كانوا قبل الإسلام أمة الفصاحة التي لا تقدر في حياتها شيئا مثلما تقدر بلاغة العبارة وروعة التصوير، حتى إذا ظهر في القبيلة شاعر طاروا به فرحا، غير أنهم كانوا في ذات اللحظة من أكثر الأمم تخلفا على وجه الأرض حينها.. لم يستطيعوا بناء حضارة ولا شبه حضارة ولا حتى معالم مشوهة من حضارة.. بل ولا استطاعوا تكوين وحدة من أي نوع، على ما كان بجوارهم من إمبراطوريات ضخمة كفارس والروم..
فلما جاء الإسلام وأطلق فيهم روح العمل -مع القول- انسابوا في الأرض يبنون حضارة هي أسرع الحضارات قيامًا وأعمقها تأثيرًا.
ولم تحيا الأمة حينئذ إلا بأمثال من قال: ”إنى لأجد ريح الجنة”، ليس لأنها كلمة بليغة، بل لأنها قالها وهو يموت، قالها بطعم ورائحة الدماء، فرحم الله أنس بن النضر.
وإن مَثَلَه كَمَثَل أخيه عبد الله بن رواحة الذي كررها بعد ستة أعوام، في مؤتة، حين نزل إلى ساحة الجهاد قائلاً:
أقسمت يا نفس لتنزلن أو لتكرهنه
إن أجلب الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة؟
قد كنت قبل مطمئنة
إنه ليس شعرًا في المرتبة الأولى في الفصاحة، غير أن الكلمات قد خلدت، لأن صاحبها مات بعدها بقليل، شهيدا في سبيل الله.
بل ولقد خلدت الأمة بمن لم يقل شيئا، بصاحبه جعفر بن أبي طالب الذي فَعَل في صمت، أو قل: راح شهيدا صامتا، قُطعت يمينه التي تحمل الراية، فأمسكها بشماله، فتقطع شماله فيمسكها بعضدية، ثم يضرب فيموت ولاتسقط منه الراية.. هو مشهد صامت لكنه أبلغ من معلقات شعر كلها تدعو للجهاد.
ولقد اكتسبت كلمات خبيب بن عدي الشهيرة روعتها وتأثيرها وخلودها، لا لأنها كانت بليغة أو فصيحة.. بل لأنها قيلت وهو على خشبة الصلب يرفض إلا أن يموت مسلما.. قال:
ولست أبالي حين أقتل مسلما **** على أي جنب كان في الله مصرعى
وذلك في ذات الإله وإن يشأ *** يبارك على أوصـال شلو ممــزع
وتلك السطور التي أكتبها الآن.. يجب أن أعرف أنها بلا قيمة لو لم تتحول إلى عمل، ولقد أحببت أن أسأل نفسي وأسألك معي:
ما هو نصيبك من البلاغة الحقيقية؟؟ وأقصد نصيبك من العمل.